-أطلَّ والأفق قد رقت حواشيه، يمشي وئيد الخطى في ظل واديه حيث المنى رفرفت بالبشر وانتحرت على ربوع الهوى في سفح ماضيه، والشمس في الأفق الثاني قد انهمرت منها الأشعة تنزو من أقاصيه،فاغرورق المرج بالأضواء، واشتعلت جوانح العطر و ارفضّت أواذيه.
وكان جو الخريف الطلق في غرق من الفتون زهت بشراً ضواحيه، والسهل يعبث في أقدام سلسلة من الخمائل تاهت في روابيه تشوبها صفرة خرساء كالحة و الطير تذرو أناشيد تواسيه، وجوهها خشعاً لله ذاهلةً ترنو إلى الملأ الأعلى تناجيه، كأنها عن بني الانسان تخبره شيئاً يخفف عنها ماتعانيه.
أراد أن يرجع الماضي بروعته حتى يرى كل شيء من مجاليه؛ يرى الغدير بقرب العين مصطفاً أو يشهد الطلل البالي وما فيه, فأين هي سرحة الدردار أين مضت وأين وادي الصبا؟ جفت سواقيه، وأين هي خلوات الحب في كنف الغابات قرب التي كانت تناغيه، وأين تلك التي في ظلها غمرت روحيهما قبلة شقت مناحيه، فغاب عن كل شيء مع حبيبته وراح يسبح في أجواء باريه.
لقد تساءل عن مأواه حيث بدت مشاهد الحب واخضرت دواليه وكان يمشي كسِيف الوجه تلفحه زعازع أغرقته في مآسيه، كأنه عابر في جوف مقبرة من الأماني وقد هبت تلاقيه، تحدوه في سيره مرددةً لحناً ليتنا ندري معانيه.
آثار اعجابه صفو البحيرة اذا تبسّم الجو وافترت مراقيه، وانزج تفكيره في جوف قاطرة من المشاهد يحدوها تصابيه، محدقاً بأعالي السوج مضطرباً لا يستطيع ولوجاً رغم داعيه، كأنه ذلك الهندي منتدبًا من البلاد، شريداً في بواديه، رانت على قلبه ذكرى فضاق بها ذرعاً وكاد الأسى يطفي مآقيه مُخاطرة لفها الماضي بسترته وزجها البؤس في أقصى مهاويه.
وحين رفت عشايا الصمت وانتحرت عرائس الضوء واحمرت أماسيه، أحس بالوحشة الخرساء تلسعه بمارج الهم والذكرى تباريه، فراح يجأر بالشكوى ويهتف بالنجوى بقلب غريق في مآتيه: ((يا أيها الألم الجبار قل فأنا ذاك الضعيف الذي خابت مساعيه،هل مايزال إناء العمر محتفظاً بسائل الحب ام أخفاه ساقيه؟ وانت ياوادي الاحلام أين مضت أشلاء قلبي ضاعت أمانيه؟ ما للطبيعة بالآمال ساخرة، أبت عليه بالشؤم لا يواتيه، أمَحَت لنا ذكراه ما بالها نسيت وخلفت كل ما يرجى تلافيه، لو لا استحالتها بالقلب ما انقطعت روابط الحب أولاحت خوافيه؛ فالدهر شيمته التبديل وا عجَبا لذلك الدهر ما اقسى عواديه)).
قد أمحى كل ماشِدناه من ورق الأشجار للملتقى وانهد بانيه، وان حاملة الاسمَينِ قد قطِعَت ومأتم الحب قد فاضت مرائيه، وسرحة الورد أطفال القرى عبثوا بها فراح الشذا يطوي أراضيه، ونبعة الغاب شادوا قرب موردها ذاك الجدار وقصوا مايُدانيه، كانت تجئ إليها كلما التهبت أطائم القيظ وامتدت فيه حتى اذا سلساله بيد جذلى تحابيه لله ما كان أبهاها اذا انفتحت أصابع الكف وانبثت لآليه، كأن جنية شقراء هبطت تداعب الماء تبدي من دراريه.
طريقنا الوعر مرصوفاً غدا فلكم جنباً لجنب سرنا في مطاويه، فينجلي أثر الأقدام مرتسماً على الرمال بشكل لست ناسيه، آثار رجليك فوق الرمال تضحك من آثار رجلي هزواً بالتشابيه، مرت عليه مساء وهي آبية تشكو من ثقل غرقي في التآويه، كانت عليه اذا ما الشوق راودها ترجو انتظاري وترنو من أعاليه، والغاب أمسى حطاماً مات معظمه إلا بقايا اخضرار في نواحيه ويلاه. هل مات الحب وانصرمت ملذة العمر واندكت مآويه؟الا تعود الينا؟ هل يرجعها شيء إلى القلب كي تصفو لياليه؟ يلهو النسيم بأهداب الغصون ومن عيني دمع الأسى فاضت مجاريه، ومنزلي في ذهول لا يكاد يعي صداقة الأمس. من ينسى أهاليه؟ والآن تعبر هذا الدرب قافلة طروبة الخطو تستقصي نوائيه، فإنها مثلنا تجتاز بضع خطى بمركب آه ما أوهى سواريه، فلا يحاول بلوغ المنتهى أحد فالحلم متسع شطت مراميه........
عن فكتور هيجو
امير الشعر الفرنسي(1802-1885)
اشهر اعماله: البؤساء و أحدب نوتردم (كلكم تعرفونه)